رغم الرصاص الحي وقنابل الغاز القاتلة والعنف المفرط، يستمر العراقيون في حراكهم السلمي في معظم مناطق البلاد، وبينها العاصمة بغداد، حيث ابتكر المتظاهرون وسائل عدة للانتصار على آلة القمع.
وفي بغداد، أعلن الجيش فرض حظر ليلي للتجول، لكن ذلك لم يزد المحتجين إلا إصراراً، وزاد التجمهر في ساحة التحرير الرمزية، مركز الاحتجاجات في العاصمة.
جبل أحد
ويقضي الآلاف الليل في الساحة، حيث نصبت الخيم، فيما يشغل آخرون مبنى من 18 طابقاً يعرف بالمطعم التركي، ويسميه المتظاهرون “جبل الثورة” أو “جبل أحد” أو “الجنائن المعلقة”.
ومن أعلى قمة هذا المبنى، يراقب الشباب الحشود في ساحة التحرير وعلى طول جسر الجمهورية المؤدي إلى المنطقة الخضراء.
وأقامت شرطة مكافحة الشغب العديد من الحواجز على امتداد الجسر لمنع المتظاهرين من التقدم إلى المنطقة التي تضم المقار الحكومية والسفارات الأجنبية. لكن ذلك ليس إلا فرصة للمتظاهرين في المبنى، للسخرية من قوات الأمن.
فصباح كل يوم، ينادي المحتجون عبر مكبرات الصوت من أعلى المبنى على قوات الشرطة المجهزة بشكل كامل، بالقول “صباح الخير إخواتنا بمكافحة الشغب جماعة الشيفت (الدوام) الصباحي”، قبل أن يضعوا لهم أغنية “حبيبي صباح الخير” للفنان ماجد المهندس.
في أسفل المبنى نفسه، يوزع المتظاهرون بطاقات تعريفية مزورة، مكتوب في حقل الهوية “عراقي شريف”، في إشارة إلى أن حاملها متظاهر سلمي.
لكن خلف السخرية والنكات، اتخذت التظاهرات نبرة أكثر جدية في الأيام الأخيرة. فصارت المجموعات تعقد مناقشات حول السياسة والاقتصاد، وحتى لمناقشة الدستور مادة بمادة، ويريدون تشكيل “حكومة ساحة التحرير”.
ينادي البعض بالعودة إلى نظام رئاسي، بينما يقول آخرون إن العراق يحتاج إلى “ديكتاتور”. لكن الجميع متحد في إدانة النظام الحالي.
ويقول أحد المتظاهرين، وهو يشير إلى المنطقة الخضراء، إن “الأشخاص الأكفاء، موجودون هنا في التحرير، وليس هناك”.
“لدينا أوامر، لا يمكنكم المرور”
وفي الأيام العادية، تنصب قوات الشرطة حواجز أمنية وتسهل مرور المشاة. لكن اليوم، على الطريق المتاخمة لنهر دجلة وسط بغداد، أقام المتظاهرون حاحزا وكان ردهم على رجال الشرطة الذين يحاولون العبور “لدينا أوامر، لا يمكنكم المرور”.
قبل يوم، وعلى الطريق ذات الاتجاهين نفسها، قام عناصر الشرطة بانزال كتل خرسانية لمنع المتظاهرين من الوصول إلى ساحة التحرير.
لكن على حين غرة، وصلت مجموعة صغيرة من المتظاهرين على متن عجلة “توك توك” حمراء، وهي وسيلة نقل اكتسبت شهرة كبيرة خلال الاحتجاجات، وقاموا بمطاردة الشرطة.
أوقف المتظاهرون عربة التوك توك أمام شاحنات الشرطة، وقطعوا عليها الطريق، وضغطوا على الضباط للعودة عن قرارهم ورفع الجدران.
وبالفعل تراجع عناصر الشرطة، وتمكنوا من تغيير مسار الشاحنة الكبيرة، وتبعها التوك توك منتصراً. بعيد ذلك، علق المتظاهرون لافتة صغيرة كتب عليها “الطريق مفتوح بأمر الشعب”.
وشهدت الاحتجاجات التي انطلقت في الأول من أكتوبر الماضي، أعمال عنف دامية، أسفرت عن مقتل 257 شخصاً على الأقل، بحسب أرقام رسمية.
“ماكو وطن، ماكو دوام”
ويواصل العراقيون الاعتصامات والإضرابات في المدارس، وقطع الطرقات والجسور الرئيسية بالقرب من المباني الحكومية.
واتفق الآلاف من طلاب الجامعات العراقية والمدارس الذين يرفضون العودة إلى الفصول حتى بدء إصلاحات شاملة، على شعار “ماكو وطن، ماكو دوام”.
ومددت نقابة المعلمين إضرابها لمدة أسبوع على الرغم من تهديدات وزارة التربية والمسؤولين باتخاذ عقوبات قانونية تجاه المضربين.
لكن الأساتذة قرروا السير على خطى طلابهم، الذين كانوا قبل فترة يصفونهم بـ”جيل البابجي”، وهي لعبة قتالية على الإنترنت، حجبتها السلطات بقرار برلماني لاعتبارها تشجع على العنف، في بلد مزقته 40 سنة من الحروب.
وأغلقت جميع مباني مجالس المحافظات في المدن الكبيرة مع إعلان بلافتات كبيرة “مغلقة بأمر الشعب”.
وفي الديوانية (200 كلم) جنوب بغداد، أصبح مقر الحكومة المحلية مكباً للنفايات.
وأغلق المبنى منذ اقتحامه من قبل المتظاهرين الشهر الماضي، ويقوم سكان وشاحنات قمامة يومياً برمي أكوام النفايات هناك.
أما في مدينة الرميثة بمحافظة المثنى الجنوبية، المعروفة بتاريخها في مقاومة البريطانيين مطلع القرن الحالي، اتخذ المتظاهرون قراراً جريئاً ضد الحكومة.
ففي وسط التظاهرة، ألقى أحد الناشطين خطاباً اعلن فيه تصعيداً ضد السلطات قائلاً “نعلن فرض حظر تجول على السياسيين وإغلاق مكاتبهم ويكتب عليها مغلقة باسم الشعب”.
وكانت السلطات الأمنية العراقية فرضت حظراً للتجول في غالبية مناطق الجنوب، في محاولة لقمع الاحتجاجات، لكن السكان تجاهلوا القيود على نحو متزايد.